المادة    
قَالَ المُصنِّفُ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -:
[قال الإمام أَحْمَد: حدثنا أنس بن عياض، حدثنا أبو حازم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده - قَالَ: {لقد جلست أنا وأخي مجلساً ما أحب أن لي به حمر النعم، أقبلت أنا وأخي وإذا مشيخة من أصحاب رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جلوس عند باب من أبوابه فكرهنا أن نفرق بينهم، فجلسنا حجرة إذ ذكروا آية من القُرْآن فتماروا فيها حتى ارتفعت أصواتهم فخرج رَسُول الله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مغضباً قد أحمر وجهه يرميهم بالتراب، ويقول: مهلاً يا قوم! بهذا أهلكت الأمم من قبلكم باختلافهم عَلَى أنبيائهم، وضربهم الكتب بعضها ببعض، إن القُرْآن لم ينزل يكذب بعضه بعضا وإنما نزل يصدق بعضه بعضا، فما عرفتم منه فاعملوا به وما جهلتم منه فردوه إِلَى عالمه}.
ولا شك أن الله قد حرم القول عليه بغير علم، قال تعالى: ((قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنزِلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَالا تَعْلَمُونَ)) [الأعراف:33] وقال تعالى: ((وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ))[الإسراء:36] فعلى العبد أن يجعل ما بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه هو الحق الذي يجب اتباعه، فيصدق بأنه حق وصدق، وما سواه من كلام سائر النَّاس يعرضه عليه، فإن وافقه فهو حق، وإن خالفه فهو باطل، وإن لم يعلم: هل خالفه، أو وافقه لكون ذلك الكلام مجملاً لا يعرف مراد صاحبه، أو قد عرف مراده لكن لم يعرف هل جَاءَ الرَّسُول بتصديقه أو بتكذيبه فإنه يمسك عنه ولا يتكلم إلا بعلم، والعلم ما قام عليه الدليل، والنافع منه ما جاء به الرسول، وقد يكون علم من غير الرسول، لكن في الأمور الدنيوية مثل الطب والحساب والفلاحة، وأما الأمور الإلهية والمعارف الدينية فهذه العلم فيها؛ ما أخذ عن الرَّسُول لا غير] إهـ.

الشرح:
هذا الحديث استدل به المُصنِّفُ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - عَلَى القضية الأساسية وهي قضية عدم معارضة شيء مما جَاءَ به الرَّسُول صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالرأي، ومن هنا نهي عن الجدال؛ لأنه مدعاة لأن يتعصب الإِنسَان لرأيه فيتعسف في الأدلة ويأخذ منها ما يوافق هواه ورأيه ويرفض ما عداها ويقول هذا هو الصحيح فيضرب كتاب الله -تعالى- بعضه ببعض وهذا هو الذي حصل في جميع الفرق التي ضلت وانحرفت.
  1. أهل الوعد وأهل الوعيد

    جاء الخوارج والمعتزلة فأخذوا النصوص في الوعيد فقط: {لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن} فَقَالُوا: لا يمكن أن يقع الزنا من المؤمن. إذاً: من زنا فهو كافر!
    وجاءت المرجئة فأخذت النصوص في الوعد {من قال لا إله الله دخل الجنة} قالوا: وإن عمل ما عمل فهو كامل الإيمان.
  2. أهل القدر بصنفيه

    وجاءت القدرية الذين ينفون القدر فأخذوا من الآيات والأحاديث ما يدل عَلَى إثبات القدر، وعلى إثبات الفعل للإنسان فنفوا قدر الله تعالى، وأخذوا ما يثبت عَلَى أن الفعل من الإِنسَان وجعلوا الإِنسَان هو الذي يخلق فعل نفسه، وقابل القدرية الجبرية فأخذوا الآيات التي تدل عَلَى أن الله تَعَالَى هو المتصرف وهو الذي يخلق، فجعلوا الإِنسَان معطلاً عن الفعل والإرادة، ونسوا أن العباد هم الذين يفعلون بإرادتهم واختيارهم، فأخذت كل فرقة بشيء من الدين وضاربوا النصوص بعضها ببعض.
  3. سبب تفرق المسلمين وكثرة الفتن

    كانت نتيجة ذلك أن تفرق الْمُسْلِمُونَ وكثرت الفتن في الدين والاختلاف فيما أنزل الله تعالى، فضربوا كتاب الله بعضه ببعض، فهذا يقرأ آيات الوعيد، ويضرب بها آيات الوعد، وهذا يقرأ آيات الوعد، ويضرب بها آيات أو أحاديث الوعيد، وكذلك في القدر، وفي الصفات فقد جَاءَ بعضهم فأخذو من قوله تَعَالَى ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)) [الشورى:11] نفي ((الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)) [طه:5] ويأتي الآخر فيثبت الاستواء ويقول: إنه يستوي كإستواء المخلوقين وينسى((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ))([الشورى:11] فالفِرق المنحرفة عن منهج أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ تضرب كتاب الله بعضه ببعض، وتضرب سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعضها ببعض وتماري في الدين بالهوى الذي يزعمون أنه عقل.
  4. مقالة أهل الكشف والذوق

    بعد ذلك ظهر من يماري ويجادل في الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى بالكشوفات والخيالات والمنامات والأذواق والمواجيد، ويقولون: إن الحق إنما يلتمس فيها، ومن قَالَ: إن الفاصل بين ما يؤول من الصفات وما لا يؤول إنما هو الكشف، فهذا الحديث الآتي أحد الأحاديث التي تنفي ذلك وترد عَلَى هذه المقالات جميعاً يقول: عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده {لقد جلست أنا وأخي مجلساً ما أحب أن لي به حمر النعم، أقبلت أنا وأخي، وإذا مشيخة من أصحاب رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جلوس عند باب من أبوابه} هذا المتكلم هو عبد الله بن عمرو بن العاص -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فكرهنا أن نفرق بينهم فجلسنا حجرة إذ ذكروا آية من القُرْآن -أي: جلسوا في ناحية منهم إذ ذكروا آية من القرآن- فتماروا فيها أي: تجادلوا في هذه الآية هذا يقول معناها كذا وهذا يقول: معناها كذا، حتى ارتفعت أصواتهم.
    {فخرج رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مغضباً} أي سمع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جدالهم فخرج مغضباً {قد احمر وجهه -يرميهم بالتراب-} فأنكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليهم بشدة لاختلافهم في القرآن، وقد ورد في بعض الآثار أن الخلاف كَانَ في القدر، فالصحابة خير النَّاس وأفضلهم وأتقاهم، فلما أن وصل بهم الجدال إِلَى أن ارتفعت الأصوات هذا يقول الحق ما أراه، وهذا يقول: أنت أخطأت في فهم الآية، فخرج عليهم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مغضباً قد احمر وجهه يرميهم بالتراب ويقول: {مهلاً يا قوم بهذا قد أهلكت الأمم من قبلكم باختلافهم عَلَى أنبيائهم، وضربهم الكتب بعضها ببعض، إن القُرْآن لم ينزل يكذب بعضه بعضاً؛ بل يصدق بعضه بعضاً، فما عرفتم منه فاعملوا به وما جهلتم منه فردوه إِلَى عالمه}.
  5. الاختلاف على الأنبياء سبب الفتن والهلاك

    بين لنا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بهذا الإنكار الشديد كيف اختلفت الأمم من قبلنا ووقعت فيهم الفتنة وهلكوا باختلافهم عَلَى أنبيائهم، وما أكثر اختلاف النَّاس عَلَى أنبيائهم، ففي سورة المائدة عندما دعى نبي الله موسى عَلَيْهِ السَّلام قومه لأمر الله أن يدخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لهم فاختلفوا عليه، وَقَالُوا: إن فيها قوماً جبارين، إِلَى أن آل به الحال أن يقول عَلَيْهِ السَّلام ((رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي)) [المائدة:25].
    واختلفوا حتى في الأمر البين الواضح الجلي((إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَة)) [البقرة:67] أمرٌ إلهي واضح صريح، فلو أخذوا أي بقرة وذبحوها لأجزأ، ولكنه الاختلاف والتنطع والتشدد ومحبة العناد والإخلاد إِلَى الدنيا والتحايل عَلَى أمر الله تعالى، والله لم يشدد عليهم أول الأمر فلما شددوا عَلَى أنفسهم شدد الله عليهم، ومثله حديث الرجل الذي في الصحيح لما قال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {حجوا فإن الله قد كتب عليكم الحج والعمرة، فقام رجل فقَالَ: يا رَسُول الله أفي كل عام؟ قَالَ: لو قلت: نعم لوجبت} ثُمَّ ذكر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حال الأمم قبلنا وأنهم إنما هلكوا بكثرة سؤالهم واختلافهم عَلَى أنبيائهم، فالإِنسَان يقف عند حدود ما أنزل الله تَعَالَى ولا يجادل ولا يماري ولا يقف ما ليس له به علم فقَالَ: {باختلافهم عَلَى أنبيائهم} هذا أولاً.
  6. أهل الكتاب يضربون كتاب الله بعضه بعض

    وقوله: [وضربهم الكتب بعضها ببعض] أي: يأتون إِلَى ما أنزل الله عليهم فيضربون بعضه ببعض، وهكذا كَانَ حال الأحبار والرهبان الذين كانوا يفسرون التوراة والإنجيل، فكانوا يضربون بعضها ببعض، فتفرقت النَّصَارَى واليهود إِلَى ما هم عليه اليوم شيعاً وطرقاً؛ حتى أنهم كتبوا أناجيل من عند أنفسهم، وكذلك أسفاراً للتوراة، فضاعت التوراة الحقيقية وضاع الإنجيل الحقيقي، ولما بعث مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ بالوحي المبين ودعاهم إِلَى الدين وإلى الشريعة الناسخة، وكانت كتبهم الماضية قد حرفت جميعاً وتعرضت للتغيير والتبديل، حتى لم يبق منها نسخة يعتمد عليها في الصحة بسبب هذا الاختلاف والشتات والتفرق، وبعض الأناجيل كتبت عمداً لتثبت قضية من القضايا.
    فمثلاً: إنجيل يوحنا الذي يجادل به النَّصَارَى إلى اليوم ويفسرونه في إذاعاتهم؛ كتب ليثبت أن المسيح ابن الله -تعالى الله عن ذلك علواً كبيرا- يكتبون الإنجيل ويقولون هذا من عند الله وما هو من عند الله -نعوذ بالله من البهتان ومن الافتراء عَلَى الله عز وجل- فيقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {بهذا أهلكت الأمم قبلكم باختلافهم عَلَى أنبيائهم وضربهم الكتب بعضها ببعض}.
    إن القُرْآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضاً -حتى نأخذ آية ونعارض بها الآية الأخرى- بل يصدق بعضه بعضاً فكله من عند الله وكله حق، ولكن منه آيات محكمات هُنَّ أم الكتاب وأخر متشابهات،
    فالمؤمنون الذين وفقهم الله للحق والخير والهدى يردون المتشابه إِلَى المحكم، فيفهم المتشابه من خلال المحكم، وأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، فهَؤُلاءِ يتركون الآيات الواضحات المحكمات ويذهبون إِلَى المتشابهات ويضربون كتاب الله تَعَالَى بعضه ببعض.
  7. أمثلة لضرب النصوص الشرعية بعضها ببعض

    صاحب كتاب أساس التقديس الرازي وأمثاله يستدلون عَلَى نفي الصفات التي يسمونها الصفات الخبرية ونفي الاستواء، وأمثاله بقوله تعالى: ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)) [الشورى:11] وقوله: ((قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)) [الاخلاص:1] إِلَى آخرها وقوله: ((هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً)) [مريم:65] وأمثال ذلك من المعارضة.
    وكثير من النَّاس اليوم يعارضون كلام الله ورسوله بعضه ببعض فمثلاً: حرم الله الربا فَقَالُوا: ((إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا))، البيع حلال فإذا اشتريتُ هذا بـ (1000) ريال، فأبيعه بـ(1500) ريال ورضي المشتري فهذا حلال، ثُمَّ قَالَ: ما الفرق بين هذا وبين من أقرضته (1000) ريال ثُمَّ ردها إليّ بـ(1500) ريال؟!! ((إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا)) فعارضوا بهذا القياس الباطل كلام الله ورسوله.
    ومثال آخر يكاد يكون يومياً: كثيراً ما نقرأ الآيات والأحاديث الصحيحة الثابتة التي تأمر المرأة أن لا تخرج من بيتها إلا لضرورة، وأنه يجب عليها أن تستتر عن الأجانب، وأن صلاتها في قعر بيتها أفضل منها في المسجد فكل هذه الأدلة، وما كَانَ عليه واقع الصحابة وواقع الْمُسْلِمِينَ في القرون الماضية شاهد عَلَى ذلك، فيلغون هذا كله ويعارضونه بأن فلانة من الصحابيات اشتركت في غزوة كذا، وأن فلانة خرجت إِلَى العراق وأن فلانة كانت تتعلم العلم وكانت تفتي، فيهدرون جميع الأحاديث الصحيحة بل الآيات الصريحة والواقع الضخم الذي كَانَ معاشاً مقابل أنهم جاؤوا بهذه الجزئية ويضربون كتاب الله بعضه ببعض.
    ويأتون إِلَى الآيات التي تحث عَلَى العمل حتى الآية التي أنزلها الله في المنافقين ((وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ)) [التوبة:105].
    فيقولون: لا بد أن تعمل المرأة، فيضربون كتاب الله بعضه ببعض وينزلون الآيات والأحاديث في غير موضعها، وهذا كثير حتى عند العامة، وكل هذا مرجعه إِلَى القضية الأساسية، وهي: أنه لم يوحد رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالاتباع والطاعة والتحكيم، ولم يقدر القُرْآن والسنة حق قدرهما، فأصبحت القلوب والعقول خاوية من الفهم الصحيح والتقدير لِمَا جَاءَ به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من عند الله ولمعرفة قيمة هذا الوحي والتمسك به.